نهاية غادر ونجاة عالم
الإمام الفقيه طالوت بن عبدالجبار المعافري
لما تولى الحَكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل الحُكم مالَ إلى أهل الفسق واقتراف الكبائر والمنكرات، فتحرك الفقهاء وأرادوا الخروج عليه، فحصلت الفتنة ووقع المحذور، وذاق الفقهاء من القتل والتعذيب ما ذاقوا ، حتى قيل إنه قتل من الفقهاء ما يقارب السبعين رجلًا وصُلبوا في تلك الفتنة ، وشاء الله لبعضهم النجاة فهرب منهم من هرب !
وكان أحد العلماء "المطلوبين" لسيف السلطان الإمام الفقيه طالوت بن عبدالجبار المعافري تلميذ الإمام مالك رضي الله عنه، وهو من أكابر الفقهاء، وقد هرب من بطش الحَكم بن هشام، واستخفى عند جارٍ له يهوديّ مدة عامٍ كامل .
فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه، وقال له: قد عزمت غدًا على الخروج وسأذهب على الوزير أبي البسام فقد قرأ عليّ القرآن وعلمته العلم ، ولي عليه حق التعليم وحق العشرة وله جاهٌ عند الحَكم فعسى أن يشفع لي عنده فيؤمّنني ويتركني .
فخرج في الخفاء ليلًا حتى أتى دار الوزير فاستأذن عليه، فأذِن الوزير له، فلما دخل عليه رحّب به وأدنى مجلسه وسأله أين كان في هذه المدة، فقص عليه قصته مع اليهودي.
ثم قال الإمام طالوت للوزير أبي البسام: اشفع لي عند الحَكم حتى يؤمنني فوعده الوزير بذلك، ثم خرج الوزير من فوره إلى الأمير الحَكم ووكل بطالوت من يحرسه .
فلما دخل الوزير أبو البسام على الأمير الحَكم قال له: لقد جئتك بهدية؛ جئتك بِطالوت رأس المنافقين وقد ظفرت به!
فقال الحَكم: قم فعجّل لنا به، فلم يلبث أن أُدخل الإمام طالوت على الأمير، وكان الأمير يتوقد ويشتعل غيظًا منه فلما رآه جعل يقول: طالوت؟؟! الحمد لله الذي أظفرني بك، ويْحك والله لأقتلنك شر قِتله! كيف استبحت حرمتي؟
فقال له الأمام طالوت: ما أجد لي في هذا الوقت مقالًا إلا أن أقول لك: والله ما أبغضتك إلا لله وحده حين وجدتك انحرفت عن الحق، وما فعلت معك إلا ما أمرني الله به، فسكن غيظ الحَكم .
ثم قال: يا طالوت، والله لقد أحضرتك وما في الدنيا عذاب إلا وقد أعددته لك، وقد حيل بيني وبينك، فأنا أُخبرك أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك ، اذهب قد عفوت عنك.
ثم سأله الحَكم: يا إمام، كيف ظفر بك الوزير أبو البسام؟
فقال طالوت: أنا أظفرته بنفسي عن ثقة ، فأنا لي فضل عليه فقد علمته القرآن والبيان، واستأذنته أن يشفع لي عندك ، فكان منه ما رأيت.
فقال له: فأين كنت قبل أن تذهب إليه؟
فأخبره طالوت بخبر اليهودي.
فأطرق الأمير رأسه، ثم نادى على وزيره أبي البسام وقال له: يا لك من رجل سوء قاتلك الله أيها المشؤوم، أكرمه يهودي وسترَ عليه لمكانة العلم والدين ، وخاطرَ بنفسه من أجله، وغدرت به أنت يا صاحب الدين حين قصدك!
أيها المشؤوم ألا أديت له حق تعليمه لك، ألم تعلم أنه من خيار أهلِ ملّتك، وأردت أن تزيدنا فيما نحن قائمون عليه من سوء الانتقام، اخرج عني قبّحك الله ، لا أرانا الله في القيامة وجهك هذا إن رأينا لك وجهًا، ولا أريد أن أراك بعد اليوم أيها المشؤوم.
ثم طرده من الوزارة وضيّق أرزاقه.
ثم مضت سنوات فرأى الناس هذا الوزير المنافق الكاذب في فاقةٍ وذُل، فقيل له ما بك وما الذي أصابك؟
قال: استجيبت فيَّ دعوة الفقيه طالوت.
وكتب الحَكم لليهودي كتابًا بالجزية فيما ملك، وزاد في إحسانه، فلما رأى اليهودي ذلك، أسلم.
وأما الإمام طالوت فلم يزل مبرورًا عند الأمير إلى أن توفي، فحضر الحَكم جنازته وأثنى عليه بصدقه وإخلاصه وعلمه .
المصدر / سير أعلام النبلاء للذهبي 8/258-259.